2018-05-01

250 خطوة


250 خطوة بالكمال حول المبنى، أخطوها كل يوم ثلاث مرات على الأقل.. أزيل بها بعضا من الااضطراب، وشيئا من الخوف، والكثير من الغربة. 
الزوايا الحادة للمباني تشعرني بالقلق. المربعات والمكعبات والمستطيلات، تُملي عليّ ألا اطمئن لوجع عابر في منتصف الصدر، أو لكُحّة استمرت لبضعة أيام، أو لطعم نحاسي المذاق ف اللعاب.
قال لي وهو يحاورني: "نحن لا نبوح بأسرارنا خشية أن نعطيها صفة الحدوث. نخفيها حتى عن آذاننا ونقنع أنفسنا بأن الله لا يراها". 
ورثت الخوف من إغلاق باب الحمام عليّ من امرأة عجوز، ملأتْ عقلَها حواديت بلدنا وأحاديث قاطنيه عن الموت الذي يأتي فجأة في أبعد الأماكن توقعا، وأغربها.
بلدتنا الصغيرة المعروفة بوفاة صغارها، تقطن أعلى النيل، ساكنة، تنتظر في قلق، عودة من ودعوها إلى البحر.
تسألني الصغيرة: "بابا آر يو سوبر هيرو؟".. أنا أبعد مما تتخيلين! فالسوبر هيروز لا يعانون البواسير، ولا اختناق الصدر.. ولا يخشون لقاء أقرب الأقربين. جنازاتهم تليق بهم.. في كواكب أخرى ومجرات نائية.. على كريبتون وآزجارد، وهم يحاربون ثانوس أو لوسيفر، لا تطاردهم فوبيا لا يعرفون لها اسما ولا يحاربون مجهولا يعرفون له سببا.. صغيرتي، السوبرهيروز لا يخافون الماء.

#على_سفر

2017-05-19

الدنيا صغيرة

تلك الموسيقى الخفيّة بينكما، رسائل مسروقة من الزمن. علّات الروح وعطب القلب ووجع الظهر وألم الجلوس، كأنها لم تكن، ولن تكون الآن. 

"افتكريني.. 
أصل مسافر
مش عايزة تقولي حاجة قبل ما أمشي؟ 
هنروح بلاد ونعدي جبال.. وحنتقابل من غير ميعاد..
الدنيا صُغيّرة..
افتكريني..
خدي عنواني.. 
يمكن نتقابل تاني.. "
صوت حسين الإمام المكرر، بجيتاره الخفيف، يهمس في خلفية رأسي، الدرويش المسافر في الباص، يصرخ ألّا شيء يعجبه.. 
"لا الراديو ولا صُحُف الصباح، ولا القلاع على التلال.. ولكني تعبتُ من السِّفَرْ".
تعبت من التعب. 

صديق المقعد، يسألني عن وجهته إن اقتربت. أنا لا أعلم من أين جئت، ولكني أتيت. 

ثلاث نقاط رمادية تتراقص على خلفية الماسنجر البيضاء. كلمة "seen" تؤكد مجددا أن "الدنيا صغيرة". 

مؤخرا، فقدت القدرة على ملء فراغات أحلام الحافلة. قلبي على سفر، فأنّى له الماء؟ وكيف يحل له الصيام؟! تقاوم ليلاً، لتملأ صمت العقل والقلب. لا تريد النوم ولا الحديث، وقلبك صار مثقلاً بحديث مكتوم. 
أحياناً تجيب على جُمل أبطال أفلامك بصوت عال ليلاً، وتضبط نفسك تحدث دخان سجائرك في المطبخ، لتحاول مجددا ملء السكون.
الوحدة قاتلة. 
الانعزال سام. 
الصمت مُبكٍ. 

صديق العمل، يقول لي ممتعضاً: "افصل يا بني، حرام عليك" فأزيد. لا أتحدث كثيرا في العادة.. في الحقيقة، لا أتحدث مطلقاً. صديقي لا يدري مقدار "جميله" لي، فيتركني أُكمل. 

خواء.. فراغ.. عدم..

صغيرا، كنت أحلم أن أكون كريستوفر مكاندليس، أتيه في القفار بعيداً عن البشر، حتى أصير مُصمتاً غير خاوٍ. والآن يتضح لي أنني أجّلت حتى ابتعدت، فابتلعتني الحياة. حلم الوحدة مؤلم والهرب إلى البرية لم يعد مجدياً الآن. 

أتذكر العود، النائم فوق دولاب ملابسي، أعيد تأجيل حلم تعلمه مرة أخرى.. أتثاءب.. الظلام في عيني يصير أكثر ثقلا.. صديق الحافلة يستأذن للنزول.. أستسلم لصوت كريستوفر مكاندليس، مرة أخرى وهو يعزف لي على الجيتار داخل "كارافان" وسط ثلوج ألاسكا: 
"افتكريني.. 
وحنتقابل من غير ميعاد..
م الدنيا صغيرة.. دي الدنيا صغيرة.."




2017-04-01

يا غريب في الكون يا قلبي

الساعة الآن العاشرة مساءً، تأخرت على موعد الحافلة، فنامت مارية مجدداً، ولن أراها اليوم أيضاً كالعادة.
150 كيلومتراً + بضع إشارات مرور والزحمة المعتادة. المجموع الكلي مقسوماً على سرعة 80 كيلومترا في الساعة، مطروحاً من العمر كل يوم مرتين، والكل مضروباً في إنهاك الجلوس والسفر والعمل، لينتج لك في النهاية بقايا إنسان.
"سكرول.. نافذة.. حافلة.. تذاكر.. عمل.. سفر.. ظلام.. سيارات.. نائمون.. أحلام.. صمت.. موسيقى.. كتابة.. سكرول.. تأمل.. أبراج.. نيام.. مقاعد.. سكرول.. إرهاق.. ملل.. سكرول.. هاتف.. سكرول.. هاتف.. سكرول.. هاتف".
أجلس دائما إلى جوار النافذة، لا أرى شيئا. أستند بجبهتي إلى راحة يدي اليسرى، أتطلع إلى شاشة الهاتف، أبحث عن أشياء لا أعرفها، لأقرأ كلمات من لا أراهم، وأُبدي دهشتي تجاه أشياء لم تحدث خارج هاتفي. أرفع رأسي بين الحين والآخر لأحسب الوقت. زميل الحافلة يتحرك ليعدّل وضع نومته، وأنا لا أجد شيئاً يستحق المتابعة لأذهب بعيداً عن ألم المقعدة وثنية الظهر وطنين الموتور. "من يوقف في رأسي الطواحين".
ريما خشيش تغني لشخص ما "أحبك ياني، وأخاف تنساني آه ياني آه ياني". تتساءل عما يكون الحب، ولا تدري هي الأخرى، فتعود إلى الحيرة.. محمود عبدالعزيز يؤكد أن الهاشا باشا تك.. فالقلب من هواكا بيعمل تيكا تك، فيبلغ به الأمر أشده، ويصرخ: "لو كان القلب خالي.. مكانش ده جرالي.. ولا كنت أجري وراكا ولا أبعت حد لك".
20 دقيقة الآن بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت مسافرا/جالسا/ساهما/شريدا في ظلام الطرقات. حنان ماضي، تعنفني: "يا غريب ف الكون يا قلبي.. ياللي حاير ف الدروب..".
رسائل هاتفي تعلن انتهاء الـ128 دقيقة اليومية الخاصة بي. أعاود النظر إلى السيارات المسرعة إلى جواري، لم أتخط عربة واحدة، فأنا أسير ببطء. زكي ناصيف، يودع شحن الهاتف "خلّي الهوى مكتوم ف قلوبنا.. إلا الهوى ما عاد في عِنّا.. بكرة النحل بيحوم ع طيوبنا، من زهر ينبت وين ما كنا". أتذكر الصباح وإرهاق السفر مجددا.. أعاود الحساب لعلّي أخطأت، فتأتي النتيجة دائماً: "ويتوب علينا م الخدمة ف البيوت..ويتوب علينا م الخدمة ف البيوت".

دراكولا

لم ألحق اليوم الحافلة، فأخبرت زوجتي، بتأخري قليلاً - ساعة- عن موعد عودتي المعتاد. لجأت إلى سماعتي الأذن، طلبا لبعض الموسيقى.
أعشق انعكاسات الأشياء على المرايا، على زجاج طاولة الاجتماعات، على النوافذ، على كل الأشياء. دائماً، تجذبني الظلال والخيالات، لا أستطيع مقاومتها. أضبط نفسي كل أسبوع أحدق في انعكاسات وجوه زملائي الجالسين أمامي، على زجاج الطاولة، أتأمل أشكالهم المرسومة إلى جوار الأكواب، أقاوم إخراج هاتفي والتقاط ما تراه عيناي، فأعتدل في جلستي، لتشتيت خيالاتهم.
أحب الساعة السادسة. سماء زرقاء تشوبها الحُمرة، تودع شتاءها، بزخات سحب خجول. نقاط سوداء بعيدة ترتحل في أسراب. توتر العصافير يطغى على كل صوت.
أعاني دوماً للتركيز في ذلك الوقت.
جميلة أنت، كسماء الساعة السادسة، وسجائر الساعة السادسة ونسائم السادسة. خفيفة أنت كأصدقاء السادسة. تأنس بصحبتهم، بلا كلمة. أرى خلال صمتهم ضحكات عمرهم وذكرياته وألحان وصالهم وخبرة أهاليهم في الحياة. سرائر هادئة وملامح تتنهد وأفراح تتشكل.
أرى في السماء انعكاسات الحب والأهل والحياة والوهم. أملأ عقلي بتفاصيل جديدة ومغامرات لبطل أحلام الحافلة الجديد، وأنتظر رؤياها الليلة.
الضوء المبهر يؤذي أعين الكائنات الليلية، وأنا منهم. خالتي تقول لي: "شبه الوطاويط، طول الليل بتطير، ولما الفجر يدّن تجري على جحورها". أليس ذلك أقرب لدراكولا الذي لا يملك انعكاسا في مرآته؟ تساءلت.
وجيه عزيز، يباغتني: "قلت أبص في المراية، يمكن أكون احلوّيت.. فضلت داير أبص، ما خلتش ولا مراية في البيت". تمر أمامي إحدى الحافلات فأرى رأسي بعد الحلاقة، لأكمل الأغنية: "يا ريتني ما كان عندي مراية.. يا ريتني ما بصيت".
الحافلة تضيء أنوارها الداخلية بقوة، لا أستطيع رؤية انعكاسي في زجاج النافذة المجاورة. بطل أحلامي لم يعلن عن نفسه بعد. أحاول النوم، يهمس لي علي الحجار: "بحبك وانطلق عصفور.." أبتسم. يأتيني من بعيد، وأنا على مشارف الغفوة، صدى صوته ضعيفاً: "وصار يجري وينسااااااني.. ".

2017-03-25

300 كيلومتر

تفصلنا 150 كيلومترا من العذاب والآلام والزحام والمطر. 300 من الكيلومترات أقطعها يومياً في سبيل الوصول. مشتت بين الأرصفة والقضايا والعناوين التي لا أملكها، وتملكني. ممزق بين سطرين وتكرار كلمتين، وعدد أحرف محدد. بين قلب تعب، وعمود فقري يبغي "الطأطأة" ومقعدة نالها الورم من طيلة الجلوس.
والغاوون الغاوون، يتبعون ما توحي به الدلالات، وما بين الأسطر. فكيف الهروب.
يأتيني صوت الهاتف ليلة شتاء رعدية: "يا غريب عن ديارك مصيرك تعود"، فيردد الكورال بلهجة آمرة:" ارجع يا غريب.. ارجع يا غريب".
الضوء الأزرق المشوب بالصُفرة المتسارعة، يسابقني إلى النوم. عيناي تشخصان إلى الناطحات على الجانب الأيسر من الطريق.. سحب مثقلة بالغيوم، سيارات تسابق ظلها، أضواء إعلانات تزيد أثر دوار الحركة، جمل غير مكتملة، قصص مفتوحة النهايات، إظلام تدريجي في البقعة التي تغفلها صباحا في نومك.
تخيلت قصصا لا تنتهي، لأولئك النائمين حولي. فهذا الآسيوي، مثلا، جاء للنزهة، وتلك الإثيوبية السمراء جاءت بحثاً عن أمل وعمل. ذاك السائق ترك حلمه البوليوودي وانتصاراته الأسطورية على الأشرار حين ارتحل. والعجوز النائم إلى جواري يستعيد الآن حياته التائهة بين جنبات الغربة. كل يوم أبدأ بشخص ما، وأنسج حبكة درامية له، وأغمض عينيّ لأراها طوال الساعتين ونصف الساعة يومياً، أترك عقلي الباطن يملأ فراغاتها بما يختزنه، أصحو بعد تتر النهاية، فأجد أبطالي اليوميين يستعدون للنزول.