2017-01-25

عزيزتي مارية (2)

عزيزتي مارية..
فقدتُ القدرة على البكاء منذ أمد بعيد. ولكن، لا ضير، إذ اعتدتُ الفقدَ - منذ زمن- في صمت.
ضاع البكاء في غياهب الغربة، مثل الصراخ بين سراديب الأرق. لا صوت، فلا أحد يسمع، ولا قلب يهدأ.
يحذرني الأطباء من الكتمان، ويطلبون البوح. يخشون دقات قلب متسارعة، وقلقًا زائدًا وأرقًا طويلا، وبعض الدهون الثلاثية وأشياء أخر.
لا أستطيع الصراخ.
أحلم دائما بصحراء خاوية، أحاول الصراخ ولكن لا صوت. تمنيت وأنا في تلك الرحلة الليلية على ذلك القارب الشراعي في النيل أن أصرخ، فحال صدأ أحبالي الصوتية دون ذلك، وخرج جشا كخوار ثور ضعيف مذبوح العنق.
أخافَ صوتي الأجش زميلاتي، فلذت بالصمت احتراما، وخجلا. ولم أعرف أنه سيلازمني طوال الطريق.
الطبيبة تسألني ألا تملك وريدًا؟ فأجيب: نحن العبيد. لا نَملِك، بل نُملَك.
كنت معروفاً منذ صغري، بعلو الصوت، وعدم الاكتراث، فأصبحتُ الصمت، واللامبالاة.
البرودة الآن تجتاح جسدي، أرى جدتك بوجهها المنحوت من التعب تبتسم، أرى خباياي التي لا يعرفها غيري، ولحظات ضحكي في المطبخ مع سيجارة الحشيش، أذكر صوت من غابوا في الدنيا وأبعدتهم الحياة، وأبتسم.
وخز إبرة الطبيب الآن في يدي، أشعر بأنبوبه الطويل يسير في العروق، أرى ذلك الخط الرفيع الأبيض على الشاشة الرمادية يمتد داخلها، ليصل إلى شيء اعتاد أن ينبض، فينفث حبره الأسود، ليزيد المكبوت وألم الكتف اليسرى.
يسألني، ماذا تعمل؟ أجيب: "من الفسيخ شربات"، وأبتسم في بلاهة، فهو لا يعرف الفسيخ وأنا لا أعرف ترجمتها.
أغمض عينيّ لأستريح، أرى وجهك/ ضحكتك/ صوتك/تفاصيلك الصغيرة، أرى نقاطاً بيضاء تزداد اتساعا، أتذكر العمل/الضغط/الكبت/الأخبار/المهام/الديون/الأموال/الواجبات/الشاشات/العناوين/اللينكات/الاجتماعات/الضجيج/السيارات/الصراخ..
الصراخ..
الصراخ..
أفتح عينيّ، فأرى ظلالا لأشباه ناس حولي، يد تُعيد رأسي إلى موضعها، وهي تُتمتم: ""it's gonna be alright.. it's gonna be alright".