2017-04-01

يا غريب في الكون يا قلبي

الساعة الآن العاشرة مساءً، تأخرت على موعد الحافلة، فنامت مارية مجدداً، ولن أراها اليوم أيضاً كالعادة.
150 كيلومتراً + بضع إشارات مرور والزحمة المعتادة. المجموع الكلي مقسوماً على سرعة 80 كيلومترا في الساعة، مطروحاً من العمر كل يوم مرتين، والكل مضروباً في إنهاك الجلوس والسفر والعمل، لينتج لك في النهاية بقايا إنسان.
"سكرول.. نافذة.. حافلة.. تذاكر.. عمل.. سفر.. ظلام.. سيارات.. نائمون.. أحلام.. صمت.. موسيقى.. كتابة.. سكرول.. تأمل.. أبراج.. نيام.. مقاعد.. سكرول.. إرهاق.. ملل.. سكرول.. هاتف.. سكرول.. هاتف.. سكرول.. هاتف".
أجلس دائما إلى جوار النافذة، لا أرى شيئا. أستند بجبهتي إلى راحة يدي اليسرى، أتطلع إلى شاشة الهاتف، أبحث عن أشياء لا أعرفها، لأقرأ كلمات من لا أراهم، وأُبدي دهشتي تجاه أشياء لم تحدث خارج هاتفي. أرفع رأسي بين الحين والآخر لأحسب الوقت. زميل الحافلة يتحرك ليعدّل وضع نومته، وأنا لا أجد شيئاً يستحق المتابعة لأذهب بعيداً عن ألم المقعدة وثنية الظهر وطنين الموتور. "من يوقف في رأسي الطواحين".
ريما خشيش تغني لشخص ما "أحبك ياني، وأخاف تنساني آه ياني آه ياني". تتساءل عما يكون الحب، ولا تدري هي الأخرى، فتعود إلى الحيرة.. محمود عبدالعزيز يؤكد أن الهاشا باشا تك.. فالقلب من هواكا بيعمل تيكا تك، فيبلغ به الأمر أشده، ويصرخ: "لو كان القلب خالي.. مكانش ده جرالي.. ولا كنت أجري وراكا ولا أبعت حد لك".
20 دقيقة الآن بعد منتصف الليل، وأنا ما زلت مسافرا/جالسا/ساهما/شريدا في ظلام الطرقات. حنان ماضي، تعنفني: "يا غريب ف الكون يا قلبي.. ياللي حاير ف الدروب..".
رسائل هاتفي تعلن انتهاء الـ128 دقيقة اليومية الخاصة بي. أعاود النظر إلى السيارات المسرعة إلى جواري، لم أتخط عربة واحدة، فأنا أسير ببطء. زكي ناصيف، يودع شحن الهاتف "خلّي الهوى مكتوم ف قلوبنا.. إلا الهوى ما عاد في عِنّا.. بكرة النحل بيحوم ع طيوبنا، من زهر ينبت وين ما كنا". أتذكر الصباح وإرهاق السفر مجددا.. أعاود الحساب لعلّي أخطأت، فتأتي النتيجة دائماً: "ويتوب علينا م الخدمة ف البيوت..ويتوب علينا م الخدمة ف البيوت".

دراكولا

لم ألحق اليوم الحافلة، فأخبرت زوجتي، بتأخري قليلاً - ساعة- عن موعد عودتي المعتاد. لجأت إلى سماعتي الأذن، طلبا لبعض الموسيقى.
أعشق انعكاسات الأشياء على المرايا، على زجاج طاولة الاجتماعات، على النوافذ، على كل الأشياء. دائماً، تجذبني الظلال والخيالات، لا أستطيع مقاومتها. أضبط نفسي كل أسبوع أحدق في انعكاسات وجوه زملائي الجالسين أمامي، على زجاج الطاولة، أتأمل أشكالهم المرسومة إلى جوار الأكواب، أقاوم إخراج هاتفي والتقاط ما تراه عيناي، فأعتدل في جلستي، لتشتيت خيالاتهم.
أحب الساعة السادسة. سماء زرقاء تشوبها الحُمرة، تودع شتاءها، بزخات سحب خجول. نقاط سوداء بعيدة ترتحل في أسراب. توتر العصافير يطغى على كل صوت.
أعاني دوماً للتركيز في ذلك الوقت.
جميلة أنت، كسماء الساعة السادسة، وسجائر الساعة السادسة ونسائم السادسة. خفيفة أنت كأصدقاء السادسة. تأنس بصحبتهم، بلا كلمة. أرى خلال صمتهم ضحكات عمرهم وذكرياته وألحان وصالهم وخبرة أهاليهم في الحياة. سرائر هادئة وملامح تتنهد وأفراح تتشكل.
أرى في السماء انعكاسات الحب والأهل والحياة والوهم. أملأ عقلي بتفاصيل جديدة ومغامرات لبطل أحلام الحافلة الجديد، وأنتظر رؤياها الليلة.
الضوء المبهر يؤذي أعين الكائنات الليلية، وأنا منهم. خالتي تقول لي: "شبه الوطاويط، طول الليل بتطير، ولما الفجر يدّن تجري على جحورها". أليس ذلك أقرب لدراكولا الذي لا يملك انعكاسا في مرآته؟ تساءلت.
وجيه عزيز، يباغتني: "قلت أبص في المراية، يمكن أكون احلوّيت.. فضلت داير أبص، ما خلتش ولا مراية في البيت". تمر أمامي إحدى الحافلات فأرى رأسي بعد الحلاقة، لأكمل الأغنية: "يا ريتني ما كان عندي مراية.. يا ريتني ما بصيت".
الحافلة تضيء أنوارها الداخلية بقوة، لا أستطيع رؤية انعكاسي في زجاج النافذة المجاورة. بطل أحلامي لم يعلن عن نفسه بعد. أحاول النوم، يهمس لي علي الحجار: "بحبك وانطلق عصفور.." أبتسم. يأتيني من بعيد، وأنا على مشارف الغفوة، صدى صوته ضعيفاً: "وصار يجري وينسااااااني.. ".