2017-03-25

300 كيلومتر

تفصلنا 150 كيلومترا من العذاب والآلام والزحام والمطر. 300 من الكيلومترات أقطعها يومياً في سبيل الوصول. مشتت بين الأرصفة والقضايا والعناوين التي لا أملكها، وتملكني. ممزق بين سطرين وتكرار كلمتين، وعدد أحرف محدد. بين قلب تعب، وعمود فقري يبغي "الطأطأة" ومقعدة نالها الورم من طيلة الجلوس.
والغاوون الغاوون، يتبعون ما توحي به الدلالات، وما بين الأسطر. فكيف الهروب.
يأتيني صوت الهاتف ليلة شتاء رعدية: "يا غريب عن ديارك مصيرك تعود"، فيردد الكورال بلهجة آمرة:" ارجع يا غريب.. ارجع يا غريب".
الضوء الأزرق المشوب بالصُفرة المتسارعة، يسابقني إلى النوم. عيناي تشخصان إلى الناطحات على الجانب الأيسر من الطريق.. سحب مثقلة بالغيوم، سيارات تسابق ظلها، أضواء إعلانات تزيد أثر دوار الحركة، جمل غير مكتملة، قصص مفتوحة النهايات، إظلام تدريجي في البقعة التي تغفلها صباحا في نومك.
تخيلت قصصا لا تنتهي، لأولئك النائمين حولي. فهذا الآسيوي، مثلا، جاء للنزهة، وتلك الإثيوبية السمراء جاءت بحثاً عن أمل وعمل. ذاك السائق ترك حلمه البوليوودي وانتصاراته الأسطورية على الأشرار حين ارتحل. والعجوز النائم إلى جواري يستعيد الآن حياته التائهة بين جنبات الغربة. كل يوم أبدأ بشخص ما، وأنسج حبكة درامية له، وأغمض عينيّ لأراها طوال الساعتين ونصف الساعة يومياً، أترك عقلي الباطن يملأ فراغاتها بما يختزنه، أصحو بعد تتر النهاية، فأجد أبطالي اليوميين يستعدون للنزول.

بلاي ليست

بقايا رؤوس تظهر أمامي.. نور أزرق خافت يليق بليل الغربة، أضواء صفراء من النافذة تسرع لتلحق بالماضي، وأنا وحيد مع سماعة الأذن وسط الزحام، أقاوم ساعتين ونصف الساعة من السفر اليومي.
"إن جئت بابك عاجزاً، أنا لست أملك غير ذاك".. صوت الشيخ يصدح في الأوبرا، وصداه يتردد بقوة.
ارتفاعات الأبراج على جانبي الطريق، تناطح الظلام، أضواؤها تطل خافتة من خلف السحب، ليأتي لحن حسين الإمام في "العالي العالي يابا" في خلفية المشهد. سيمون، تغيظني: "اسهر بقى لوحدك"، فهي لا تحب السهر. 
"طب والعمل؟" يظهر التساؤل كبيراً كلما أغمضت عينيّ، والإجابة تأتي قاطعة: "ده الحل الأفضل حالياً".
"صار لي شي مِية سني عم ألّف عناوين.. مش معروفة لمين.." فيروز تصفني بكلمتين والرحابنة يختصران حياتي المهنية في عزف حزين لأوكرديون مركون "ع الرّف".
"عمر الوشوش ما بتبقى بعد السنين.. نفس الوشوش دي بتبقى.. شيء تاني.." خالص.
"إن جيت ف يوم أرسمك.. أرسم أمل بسّام" حمزة علاء الدين، بيقسّم ع العود.
"خطّي الأحلام بيّا.. خطاويكي، خطاويّا.. والغنوة خطوة وصديق"، منير العلق يُلقي تماسيه على مسامعي وقت الغفوة.
"إمبارح كان.. كان ف الإمكان"، حنان ماضي تصرّ على ذلّ اللي خلفونا، وتعتيتنا وتطليع ميتينّا بتقطيمها..
"ألا يا لطيفُ، يا لطيف، لك اللطف.. فأنت لطيف ومنك يشملنا اللطف.. 
نجونا بلطف الله ذي اللطف إنه.. لطيف لطيف لطفه دائم اللطف
أغثنا أغثنا يا لطيفاً بخلقهِ.. إذا نزل القضاءُ يتبَعُهُ اللطف"

2017-03-06

أرق

أرق منذ ليالٍ، يتركني حبيس الـ"سكرول" والهاتف. أترك في خلفية ذاكرتي ملاحظة جانبية بأنني سأشاهد الليلة فيلماً جديداً، لكنني لا أفعل. أمدد جسدي على السرير شاخصاً إلى ما اعتده سقفاً لغرفة النوم، لا أفكر في شيء، أو هكذا يبدو لي. أحاول تذكر بعض الأخبار ولا أفعل، أعدّل أوضاع جسدي مراراً، بلا جدوى. أرهف السمع مع صراخ صغير جارنا، لأعاود محاولة النوم مرة أخرى، بعد التأكد من أنها ليست صغيرتي، النائمة في الغرفة المجاورة. 
أصداء مياه الطابق العلوي تجري في الحوائط، أصوات أبواق السيارات البعيدة تصل تائهة إلى مسامعي، تتبعها تكّات قداحة شخص ما في الشبابيك المقابلة، ومواء قط شريد وجد ضالته في أحد صناديق النفايات. 
أنصت جيدا لأنفاس زوجتي وأحاول ضبط إيقاع تنفسي لمجاراتها. أغرق في عمل اللاشيء. أحاول ثانية التفكير في ما يقلقني ولا أعرفه، محاولا تذكره، بلا جدوى. 
عقلي مزدحم بالفراغ. 
أعرف جيداً أن تلك دفاعاتي النفسية، تنأى بي بعيداً عما يقلقني فتُنسينيه. ولكن المعضلة الحقيقية أنني أصبحت فعلا لا أذكره. 
كثير النسيان، صفة اكتسبتها عن جدارة. ذاكرتي امتلأت، هكذا أفسر لنفسي السبب، فلا أجد براحاً لشيء آخر. أنتبه وسط حديث جاد لصديق، يبدو من عينيه أنه ينتظر إجابة.. "ربنا يسهل إن شاء الله، ويعمل ما فيه الخير"، أجيب وأنا أشعل سيجارة في أسى ظاهر، وأعاود النظر إلى تكوينات السحاب التي تشكل الآن جبلا من آيسكريم "الفانيلا" البيضاء تشوبه طعومات أخرى رمادية اللون، ونقاط صغيرة بعيدة سوداء تتحرك في أسراب، إلى وجه الرجل الظاهر من بين السحب لتختفي خلف تلك العمارة على ناصية الطريق. نَفَس أخير من السيجارة أخرجه مع الزفير في ضيق لأظهر تعاطفي مع هموم الزمان التي يشكو منها صاحبي  -أو هكذا اعتقدت- في كلامه.. "ربك يسهلها يا معلم". 
الـ"سكرول" لا ينقطع.. الفراغ لا يموت.. الخواء يفرض نفسه على المحيط. أصوات دقات قلبي أسمعها بوضوح في أذني اليمنى، أعاود ضبط تنفسي عليها، في محاولة للنوم، تبوء بالفشل مرة أخرى مع صوت صغير جارنا مجددا.

2017-03-05

دمعة جدّي


"دعوني أقصص عليكم القصة من بدايتها، فالسرّ دائما يكمن في البدايات.."، قال جدي.

بادرنا جدّنا بتلك العبارة، فى محاولته ليهوّن علينا – أنا وأختي الصغيرة- فراق أصدقائنا فى بلدتنا القديمة، خصوصا أن الأخت الصغيرة بدأت البكاء، منذ أن تحركنا بالسيارة.

كان جدي مغرما بالحواديت والقصص الغريبة، من يخطر بباله يوما أن دمعة تنزل على أحد خديّ فتاة لها قصة؟ ما زلت أذكر تلك القصة تماما، وكأن جدي الذى رحل منذ نحو 30 عاما، فرغ توا من سردها.

يبدأ جدي الحكي بمقولته الدائمة: "كان ياما كان، يا سعد يا كرام، ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام"، وينتظرنا أن نردد: "عليه الصلاة والسلام"، وإن كنت أعتقد أنه كان سيحكي فى كل الأحوال..

يقول: كان فيه دمعة صغيرة، وحيدة وزعلانة، كانت مخنوقة من إنها محبوسة لوحدها ومحدش راضي يخليها تنزل من العين تلعب شوية ع الخد وتطلع تاني، لإن باباها ومامتها مش مخليينها تنزل خالص، وبيقولوها: الدمعة لو نزلت م العيون بتموت، وبتموّت معاها حاجات تانية كتير.

هكذا كان جدي، مغرما بالغموض، لم يجبنا حين سألنا، "إيه الحاجات اللي بتموت يا جدو؟"، ابتسم فقط، وقال: "دعوني أكمل"..

"عيلة الدمعة قالت لها إن العيلة بتاعتهم كلها نزلت ف مرة من المرات، لما جت للبنت اللي عايشين جوه عنيها كريزة عياط، من غير أي أسباب، همّ نفسهم، الدمعة الأب والأم، مش عارفين إيه الداعي ليها، ومخنوقين من إن حياتهم الطويلة ممكن تروح هدر فى نوبة عياط، أو نوبة ضحك أهبل.

الدمعة البنت، مكنتش مقتنعة إن حبسها جوه العيون، هيفيد، خصوصا إن باباها لما بيحبسها وميخليهاش تنزل وقت ما هي عايزة، بتزداد ملوحة وزعل. ف يوم من الأيام، والدمعة الصغيرة قاعدة وحيدة زعلانة ف سجنها جوه العيون، لقت العيلة كلها بتجرى، والدموع بتصرخ: اهربوا.. نوبة عياااااط.

حاولت تهرب، باباها ومامتها قفشوها، ومسكوا إيديها وهما بيجروا، وهي قعدت تصرخ "سيبوني.. سيبوني.."، الدموع كلها كانت بتهرب من الفيضان اللي بياخدهم وينزلهم من الشلال اللي بيطلع م العيون. الدموع كلها، مستخبية، وخايفة خصوصا إن نوبة العياط، فضلت وقت طويل جدا المرة دي، البنت الصغيرة، بتبص حواليها، لقت الدموع كلها مرعوبة، زعلانة، إلا دمعة مزقططة وفرحانة وقاعدة بتقاوم أهلها برضه اللي حابسينها.

قربت منها وسألتها: "إنتي مش خايفة ليه زي بقيت الدموع؟"، الدمعة الفرحانة، قالت: "إحنا صحيح بننتهي واللي بينزل مننا ما بيرجعش تاني، بس وإيه يعني، النزول لوحده بيرحنا، وبيريح عيون البنت اللي عايشين جواها، والبنت نفسها بتستريح، وهي قدمت لنا كتير، خلتنا نشوف كارتون كتييييييير بيضحك، -صحيح تقريبا نص عيلتي ضاع وقت ضحكها- بس مش مهم، أنا متأكد إنهم مبسوطين دلوقت، ده كمان غير الألوان اللي بره ف العالم، والشمس اللي يسخونتها بتحولنا لبخار مالوش وزن، ويخلينا طايرين لحد السما، وكمان، خلتنا نشوف وش حبيبها اللي محدش من أهلها يعرفه، إحنا أول حد يشوفه، آمنتنا على أسرارها، وأفراحها وزعلها، ولازم نرد الجميل، لازم لما تكون زعلانة ننزل، ونخليها ترتاح.

وسابت إيديها من أهلها، وجريت للدمعة الفرحانة، وواحدة واحدة نطوا ف المية اللي بتطلع واحدة واحدة لفووق والنور بيقرب منهم، بتفكر وهي طالعة لمجرى الدموع اللي هيخرج م عينين البنت.. أخيرا هرد جميل البنت الحلوة، وأطبطب على خدها وأبوسه، وأرمي برة نفسها كل الحاجات الميتة، وأتبخر وأوصل للسما.. بتفكر ونور الشمس غامرها، وجسمها بدأ يتحول لبخار إنها أخيرا عملت أحلى حاجة ف الحياة.. إنها بتهون على بنت ف زعلها"، تماما مثلما اعتاد جدي أن يفعل.

____________________

القصة الأصلية من هنا: